يعرف كثير من الناس فى مصر ودول عربية أخرى مبدأ
دستورية القوانين. وقد تابعوا تطبيقات شتى لهذا المبدأ من خلال النقاش
العام حول مدى دستورية بعض القوانين، أى انسجامها مع نصوص فى الدستور أو
تعارضها مع هذه النصوص. كما أصدرت المحكمة الدستورية العليا فى مصر أحكاما
عدة قضت بعدم دستورية قوانين فى حالات كان بعضها مشهورا، ولا يزال. ومنها
مثلا الحكم بعدم دستورية القانون الذى أجريت على أساسه الانتخابات
البرلمانية عام 1984 ثم عام 1987، مما أدى إلى حل المجلسين اللذين انتخبا
فى هذين العامين.
ولكن مبدأ الدستورية، الذى ينصرف إلى مدى جدوى وجود
الدستور فى حد ذاته، ليس معروفا على نطاق واسع. وقد حان الوقت لكى نعرفه
ونستوعبه جيدا إذا أردنا دخول مرحلة جديدة فعلا فى تاريخنا وبناء نظام
سياسى دستورى حقا، وبالتالى ديمقراطي. فلا يمكن أن يكون النظام ديمقراطيا
إلا إذا أقيم على دستور يقيد السلطة السياسية ويخضعها للمساءلة والمحاسبة
ويمكن المواطنين من تغييرها ويمنعها هى من تغيير إرادتهم أو تزييفها.
فلا
جدوى من دستور فى غياب مبدأ الدستورية هذا، ولا دستورية فى حالة دستور
يطلق السلطة السياسية ويمكنها من تغيير ارادة الشعب أو التلاعب بها، فتفقد
هذه الإرادة صفتها التى لا يوجد مبدأ الدستورية إلا حين تكون هى مصدر تلك
السلطة.
والدستور الذى لا يقوم على مبدأ الدستورية لا يكون دستورا من
الناحية الفعلية، الأمر الذى قد يتيح أن نطلق عليه صفة تبدو غير مألوفة
لفظا أو لغة ولكنها عميقة المعنى وهى أنه «دستور غير دستوري». وإذا كان
القانون غير الدستورى محكوما عليه بالإلغاء فى حال تطبيق مبدأ دستورية
القوانين، فكذلك الحال بالنسبة إلى «الدستور غير الدستوري» عندما يتم إعمال
مبدأ الدستورية.
وهذا هو ما ينبغى أن يكون أساسا لبناء النظام السياسى
الجديد فى بلادنا إذا أريد له أن يكون جديدا حقا. فالمشكلة فى دستور 1971
ليست فى بعض نصوصه أو كثير منها، بل فى الأساس الذى قام عليه والفلسفة التى
تحكمه. فقد تم تفصيل هذا الدستور على مقاس نظام حكم فردى يدور حول رئيس
الجمهورية ويرتبط برغباته وأوامره وتعليماته وحكمته، وكل ما عدا ذلك فى هذا
الدستور لغو لا قيمة له ولا جدوى منه، بما فى ذلك النص على أن الشعب هو
مصدر السيادة.
فلا سيادة لشعب إلا إذا كان قادرا على مساءلة حاكمه
ومحاسبته، ومتمكنا من أن يؤيده أو يعارضه، ومتمتعا بالحق فى اختياره من
عدمه، وفى التجديد له لمرة ثانية وأخيرة أو تغييره.
ودستور هذا شأنه لا
يمكن أن يكون مجديا لأن وجوده يتساوى مع غيابه. وليس هناك دليل على ذلك
أكثر من أن السلطة السياسية، التى يفترض فى أى دستور حقيقى أن يقيدها،
تستطيع أن تغير فيه وفق مشيئتها وأن تضيف إليه وتحذف منه حسب رغباتها.
ولذلك
لم تكن ثمة جدوى من النص على تقييد المدى الزمنى لرئاسة الدولة بفترتين
اثنتين كحد أقصى فى دستور 1971 عند إصداره (المادة 77 فى صياغتها الأولي).
فما أسهل تعديل أى نص فى دستور لا يقوم على مبدأ الدستورية، بل على مبدأ أن
الحاكم فوق الدستور والشعب، بل فوق الدولة نفسها.
فلم يكن هناك أسهل من
تعديل المادة 77 فى دستور 1971 عندما أراد الحاكم ذلك عام 1980. تكفى عدة
مناشدات مصنوعة سابقة التجهيز، وبيانات تؤكد أن المسيرة لم تنته (وهى لا
تنتهى أبدا فى ظل غياب مبدأ الدستورية). ولا مانع من بضع زغاريد تعبر بها
نائبات فى البرلمان عن فرحة الشعب اللامتناهية إذ قبل رئيسه أن يعطف عليه
ويتفضل بالبقاء فى السلطة بلا نهاية.
وقد حدث مثل ذلك فى الجزائر عام
2008، إذ تم تعديل المادة 74 فى دستورها لكى تسمح بإعادة ترشيح الرئيس
وانتخابه بدون حد أقصي. ولولا الثورتان التونسية والمصرية، لحدث ذلك أيضا
فى اليمن التى كان برلمانها قد أقر من حيث المبدأ فى نهاية العام الماضى
تعديل المادة 112 من دستورها للغرض نفسه تمهيدا للمصادقة عليه قبل أول
مارس.
ولكن الإنذار الذى وجهه شباب مصر وتونس لنظم الحكم فى دول عربية
أخرى بدأت شعوبها بدورها فى الاستيقاظ أدى إلى صرف النظر عن هذا التعديل فى
اليمن. غير أن العودة إليه تظل واردة نظريا إذا هدأت الأوضاع.
ويعنى
ذلك أن «الدستور غير الدستوري» لا قيمة له ولا جدوى منه فى غياب مبدأ
الدستورية. ولا يمكن أن تكون ثورة 25 يناير مؤدية إلى مصر جديدة حقا إلا
بإصدار دستور جديد يقوم على مبدأ الدستورية، الذى يقيد السلطة السياسية
ويضع لها حدودا صارمة ويجعلها فى الوقت نفسه أكثر فاعلية وكفاءة وقدرة على
الإنجاز. كما يوفر لها المشروعية أيضا، وذلك من خلال ترتيبات مؤسسية تضع
قيودا على ممارسة سلطة الدولة وتحدد استخداماتها المشروعة والأخرى غير
المشروعة وتضمن مراقبتها ومحاسبتها.
ولأن أى ترتيبات مؤسسية وإجرائية لا
تقدم ضمانا كافيا أو نهائيا لاحترام مبدأ الدستورية، حتى بعد إصدار دستور
جديد يقوم على هذا المبدأ وينطلق منه ويقيد السلطة السياسية ويجسد مبدأ
السيادة للشعب، فينبغى أن تكون المشاركة الشعبية الواسعة فى ثورة 25 يناير
مدخلا للضمان الذى لا يعلى عليه وهو استعداد الناس لحماية الدستور حين يكون
نابعا منهم.
ولعل احدى اكثر ظواهر ثورة 25 يناير إيجابية ذلك الاهتمام
الشعبى غير المسبوق بالدستور والجدل حوله. ويمكن البناء على هذه الظاهرة
لتطويرها باتجاه وعى عام بحماية الدستور الجديد الذى ينبغى إصداره فى أقرب
وقت على أساس مبدأ الدستورية، بحيث يصبح الشعب هو مصدر السيادة نصا وعملا
للمرة الأولى فى تاريخنا.
ويتطلب ذلك، حال التوجه لإصدار دستور جديد،
تحقيق أوسع مشاركة شعبية بشأنه. وقد نحتاج، والحال هكذا، إلى التفكير فى
طريقة جديدة لإصدار هذا الدستور تتيح المشاركة الواسعة التى قد لا يمكن
ضمانها بدون صيغة لإقامة لجان استماع على أوسع نطاق فى مختلف أنحاء البلاد،
لكى يحس المصريون جميعهم بأنهم شركاء فى تأسيس مرحلة جديدة حقا وفى إعداد
الدستور الذى يتوجب عليهم بعد ذلك حمايته من أى محاولات للعبث به.