الجيش ليس فى حاجة إلىبناء الثقة مع الناس لأنها
موجودة وحاضرة وعند نقطة الحد الأقصي، ودعمتها تجربة الثورة على نحو لايمكن
التشاغل أو التعامى عنه.
وربما كان سبب هذا الاستهلال ماجاء فىالحوار
الراقى والظهور المحترم لبعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ـ ليل
الإثنين ـ الثلاثاء 21 فبراير ـ فىقناة «دريم».
إذ ورد فى الحوار ـ عرضا
وبسلامة نية وقصد وطوية بطبيعة الحال ـ طرح موضوع بناء الثقة بين الجيش
(كمؤسسة حاكمة الآن) والشعب. واستطيع ـ على نحو مطلق ومن خلال عشرات
الإنطباعات المباشرة ــ إن لم يك مئاتها ـ الإشارة لشعور شعبى كاسح
بالالتفاف حول الجيش، والصدقية الكاملة التىتتمتع بها هذه المؤسسة التليدة
فى الضمير والوجدان الشعبيين.
قلة الثقة أو إنعدامها عند الناس ربما
تنبع من تخوفاتهم إزاء بعض الأجنحة الحزبية والسياسية والمتمولين رجال
الاعمال من الاركان الباقية التىخلفها النظام السابق، أو إنعدام صدقية بعض
أجهزة الإعلام والصحافة ونجومها ورموزها (سواء الخاصة أو الحكومية).
وأعضاء
المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين يقدمون للشعب تطمينات تلو أخرى لايفعلون
دعما للثقة بين الجيش والناس، وإنما لتهدئة روع المواطنين وتأكيد ان مامضى
لن يعود.
اللواء مختار الملا بمزيج متفرد بين الخطاب السياسى والأمني،
واللواء ممدوح شاهين بعلم قانونىمتخصص وفاهم، واللواء محمد العصار بحس شعبى
هائل. قدموا للجمهور صورة جديدة ـ ربما لايعرفها ـ عن الجيش.
كانت
الفكرة النمطية التىوقرت فى الذهن العام عن الجيش هى كونه عصب الوطنية
وعمودها الفقري، والحارس على التراب الوطنى ومحددات الأمن القومى، والمدرسة
التىعلمت أبناء الفلاحين المهن والحرف والقراءة والكتابة ، وإستخدام
السلاح، وأدارت جهد جهاز عملاق للتنمية الوطنية ، قادر على النهوض بأعباء
طارئة فى مجالات غير تقليدية (الخبز ـ التليفونات ـ انشاءات الطرق
والكباري) وبما يجعل الجيش ـ فى التحليل النهائى الملاذ والمرفأ الآمن الذى
تلتجئ إليه سفينة الوطن حربا وسلما.
عقيدة تلك المؤسسة تقوم علىأن وجود
الفرد لذاته لاينفصل عن وجوده للمجموع، وتعتبر مهمتها الاساسية هى اعداد
افرادها للتكليف الاساسى المنوط بها، والذى يعنى فى حالة بعينها ـ أن
تسألهم الموت فىسبيل الوطن والشعب، فيفعلوا من دون تردد.
ومن ثم كانت
صورة القوات المسلحة لدى الناس هي: الكتلة. (الرؤوس الحليقة والوجوه التى
لوحتها الشمس وسناكى السلاح تبرق كشهب خاطفة والقفازات البيض فى الأيادى
تعلو وتهبط كأسراب الحمام).
نعم كانت صورة الجيش هى(الكتلة) ولم تكن
(الفرد) إلا حين يأتى من الاعمال ـ زمن القتال ـ مايظهر بطولته، أو حين
يمارس القيادة وسط تشكيل بعينه.
الجيش لا يعترف بنجومية الفرد الا على
مستوى القيادات العليا التى يعرفها الناس ـ بطبيعة الحال ـ أو الابطال
الذين وضعت بطولتهم خطوطا تحت أسمائهم لتوكيد الحضور.
يعنى بالعربى
الناس ترىالجيش (كتلة) تمارس واجبها المهنى أو العسكري، ولم يروا ـ الا فى
النزر اليسير ـ رموزه يتحدثون فى الشأن العام سياسيا وتنمويا وإستراتيجياً.
وفى
هذا السياق ربما أذكركم بأن آخر حوار إعلامى أو صحفى للمشير محمد حسين
طنطاوى حدث منذ مايزيد على عقدين، وحاوره فيه عدد من كبار الصحفيين
والكتاب، ثم امتنع الرجل ـ البتة ـ لأسباب ربما فهمناها أو ـ ربما ـ خمناها
على نحو او آخر.
ومن هنا كان ظهور بعض أعضاء المجلس الأعلىللقوات
المسلحة على شاشة التليفزيون (ليتحدثوا فى الشأن الدستورى أو السياسى أو
الأمنى أو الادارى والإعلامي) حدثاً تاريخياً بالمعنى الحرفى لأنه يقدم
وجهاً لمؤسسة القوات المسلحة لم يره الناس من قبل.
كوادر رفيعة يصلح أى
منها ـ بالقطع ـ لإدارة قطاع بأكمله فى الدولة، وقدرة على المحاجاة
والحوار، وإتساع صدر كبير للمناقشة ربما لم نصادفه من جانب الكوادر المدنية
التى أتحفنا بها الزمان لسنوات عديدة.
وأنا ـ هنا ـ لا أهندس إستقطاباً
بين ماهو مدنىوماهو عسكري، ولكننى بوضوح ـ أشير إلىالفارق بين (مؤسسية)
كادر الجيش، وعشوائية الكادر السياسى، علىالأقل فىاللحظة الراهنة.
مؤسسية
الجيش قدمت لنا اللواء العصار، واللواء الملا، واللواء شاهين الذين رآهم
الناس ـ للمرة الأولى فأحبوهم وأنصتوا إليهم وصدقوهم، وعشوائية السياسة
قدمت لنا مئات القيادات الحزبية والتنفيذية والتشريعية الذين لم يثق فيهم
الناس هنيهة زمن، وتشككوا فى توجهاتهم وسياساتهم وقراراتهم وذممهم المالية،
ومستوياتهم العلمية والمهنية.
هنا لابد أن نتوقف ـ قليلا ـ ونعيد طرح السؤال.
لماذا
يثق الناس ـ اليوم ـ فى الجيش، ولماذا لا يثق ذات الناس فى السلطة
السياسية، أو على الأقل يعبرون مسافة هواجس وشكوك طويلة إزاء كل ما يرد
منها؟
والاجابة بسيطة جدا.
كل شعب ابن لتجربته.
وفى إطار السياق
الذى أفضى إلى ثورة يناير وما بعدها فإن رسائل السلطة السياسية إلى الشعب
كانت مرتبكة ومخادعة، وتخاصم طلبات الناس فى الحرية والكرامة والكبرياء
والإصلاح السياسي، وكذلك احتياج المجتمع للعدل الاجتماعي.
وربما يشير
بعض المفكرين إلى انتماء الشباب (طليعة الثورة) إلى الطبقة الوسطى بشرائحها
المتوسطة أو العليا كدليل علىأن ثورتهم لم تك نتيجة للظلم الاجتماعي،
ولكننى مصر على أن وعى الشباب لم يك فئويا أو طبقيا، ولكنه وطنى بامتياز
يمد بصره إلى كل المجتمع، ويرىأن نموذج الإصلاح الاقتصادى ينبغى تحصينه
بالعدل الاجتماعى كما تفعل الدنيا كلها.
أما رسائل الجيش التىوصلت للناس
عبر بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو فى هذا الظهور الكاشف
للجنرالات الثلاثة على شاشة «دريم» فكانت straight-Forward (دوغري) توحى
بالثقة وتنطلق من أرضية معرفية واضحة ثم أن فيها حس ناس وطنيا لا تخطئه
فطرة من يستقبلون رسائل أولئك القادة.
ربما كانت هذه إجابة قصيرة على سؤال طويل بدأت به هذه السطور عن أسباب ثقة الناس فى الجيش!!
فإذا
ما واصلنا حديث (الثقة) فإن الطهارة هى عامل أساسى فى حضور تلك الثقة
وتطورها بين الناس والجيش، لا ينبغىأن يغفله أىنصف مراقب أو متابع.
إذ أن الفساد (بجميع امتداداته) يكاد يكون المسبب الأساسى لانفجار الناس على النحو الذى رأيناه.
كنا
نشعر بوجود الفساد المالي، وبالذات لدى طبقة رجال الأعمال الإستلابية
وتعبيراتها السياسية، ولكننا ـ بالقطع ـ لم نتخيل حجمه الأسطورى كما تتكشف
وقائعه الآن.
كنا نقرأ أشياء فى تقارير أجنبية، ولكنها ـ كذلك ـ تواضعت جدا عن توصيف أبعاد ذلك الانحراف الخرافي.
وكتبت
عشرات من مقالات «الشوارعيزم» عن فساد رجال الأعمال، وإمتداداتهم فى جهاز
الحكم التنفيذي، ولكننى اكتشفت أن ما كتبت كان عن (نملة) فيما الذى تنزع
التحقيقات عنه ـ الآن ـ أقنعة وأغطية هو (ديناصور)!!
وكان الفساد سياسيا
ـ كذلك ـ عنوانه وطليعته عيال أمانة السياسات الذين أهدروا المعايير
وإغتالوها على نحو مقيت وفى كل المجالات من رئاسة الشركات إلىرئاسة الصحف،
وقاموا بتضفير إطاحة المعايير مع الفساد المالي، مع النفوذ السياسي، مع
القصور الإداري، ليقدموا لنا قطعة كئيبة من الحياة لم يقو على ابتلاعها
أىمن الموهوبين الوطنيين الذين إغتصبت حقوقهم المهنية والوظيفية على نحو
ظالم متجبر (وبالمناسبة أطلب من إحدى الصحف المصرية أن تنشر للتذكير أسماء
أعضاء أمانة السياسات وأعضاء المجلس الأعلى للسياسات).
ثم كان الفساد
الثقافى الذى يعنى تلبيس الفسادين السياسى والاقتصادى أردية ومسوح الإصلاح،
وعلى نحو فيه إمعان خداع وتمويه ولف ودوران.
كل ألوان الفساد التى
خبرها الناس مع سلطة فاسدة قامت بذلك الابرار السياسى فوق رؤوسنا ليس لها
حضور ـ البتة ـ فى علاقة الناس بالقوات المسلحة، لا بل ان الجيش هو من
تناديه الجماهير كما تنادىالنائب العام محامى الشعب كيما يواصلا. الهجوم
على أوكار الفساد، ويمسكا بتلابيب رموزه ونجومه الطواويس الذين كانوا
يحتلون صدارة المشهد العام مختالين بقوتهم، محتقرين لحقوقنا، متحدثين بعد
ذلك ـ عن (المواطنة) التى تعنى مساواة الجميع فى الحقوق والواجبات.
الفساد
ـ وبهذا الحجم الكارثى المجنون ـ أهان كبرياء الناس، وكرامتهم، قبل إضراره
بالمقدرات المالية والاقتصادية للبلاد. والناس يستعجلون الجيش فى مواجهة
الفساد لأنهم ـ مرة أخرى ــ لا يثقون إلا فيه، وهم يخشون إكماله مهمته ـ
كما حددها لنفسه ـ قبل فروغه من الاجهاز على غول الفساد، ومن ثم كان حثهم
للجيش سرعة إطاحة الفساد وهو تعبير عن الثقة وليس عكسها.
كانت هذه بعض
إلهامات حديث اللواءات مختار الملا، ومحمد العصار، وممدوح شاهين، والذى كان
مناسبة لقاء تفاعلى مباشر ونادر ومفعم بالثقة بين المجلس الأعلىللقوات
المسلحة والجماهير.