كما تدين تدان
العاقل في هذه الدنيا ، الكاذبة في امالها ،
الفانية في بقائها ، هو الذي يتفحص ويدقق ويتامل
ويتعلم
ويبحث عن زاده الثمين الذي يقيه شرور النفس والدنيا
والشيطان ، يبحث وكانه يغوص مثل غواص
ماهر في بحر لجي ، يستخرج
من اعماقه كل نافع ومفيد ، ليكون له مرجعا اذا اخطا ، وزادا اذا جاع
،
وظلا ظليلا اذا اشتدت عليه حرارة الخطوب والايام
0
كثرت الاصوات التى تحدثت قائلة : في هذا الزمن قل
العقلاء0
كما صدق المثل القائل :
من لم
يعلمه اهله يعلمه الناس ، ومن لم يعلمه الناس تعلمه الليالي والايام
0
الذي يخوض في بحار المشقة وتجارب الليالي والايام ، حري به ان
يكون قد اكتسب تجربة جيدة في
حياته ، ولكن الافضل من ذلك هو ان
يتعلم الفرد من داخل اسرته ، ما يشكل له مصلا واقيا من
احداث
الليالي والايام ، يتلقن الخلق الطيب ويرتشف الحكمة ، ويرتوي بالحلم والصبر ، مع
لبن امه
في ايام طفولته الاولى ونعومة اظافره ، يطعمونه زاد
التقوى ، ويربونه على الفضيلة 0
رباه ابوه من دمع عينيه ، كان
يخرج قبل اذان الفجر بساعة ، قاصدا سوق الخضار ، يشتري
البضاعة
ثم يعرضها في سوق القرية ، معتمدا على ربه في رزقه ، منتزعا قوت اطفاله من بين
مخالب وانياب زمانه ، متكئا على عصاه التي بليت كما بلي جسده
النحيل ، وهرمت كما هرم جسمه
وشاب شعر راسه ، وانحنى ظهره وفعلت
التجاعيد على وجهه افعالها ، تخط عليه سطورا من
حكايات البؤس
والشقاء ، ثم يعود في المساء حاملا بيده قليلا من الخضار الى اسرته
0
هكذا ربى اطفاله من عرق جبينه ، ولكنها الايام حبلى بما
لايعلمه الا الله تعالى ،، اصبح ابنه شابا قويا
يافعا ، ولايزال
ابوه يلتقط القروش لاسرته0
وبعيدا عن اسباب الخلاف التي نشبت
بين الاب العجوز المسكين وبين ابنه العاق 0
لم يصبر الابن العاق
على والده الذي رباه من عرق جبينه ، حتى اتكا على عكازته ( عصاه
)
لم يتحمل الابن العاق والده العجوز ، ضاق به ذرعا فاعتدى عليه
بالضرب المبرح ، في وسط سوق
خضار القرية ، وفي وقت الضحى ،
والسوق في ذروته مكتضا بالباعة والمشترية 0
بكى الاب بكاء
شديدا ، ووقع على الارض ، وسالت الدموع من عينيه ، تسطر مزيدا من اسطر
الماساة على صفحات وجهه ، متاوها باهات مزقت انياط القلوب ،
وخلعتها من اجسادها ، كان يبدو
كالكبش الضعيف الذي لا يملك حولا
ولا قوة امام وحشية ذئب مفترس 0 بعد عام واحد على وقوع
المصيبة
السوداء ، اخذ الله وديعته ، ولاقى الاب الحزين ربه منكسرا قلبه
0
انها الايام التي لا يامنها الا جاهل ، فلقد كبر الابن العاق
واصبح في سن والده المرحوم ، وصار
اولاده رجالا يحترفون الحرفة
ذاتها ، التي احترفها ابوهم وجدهم من قبل 0
وفي ذات المكان
الذي ضرب الابن العاق والده العجوز فيه ، وقد بلغ من العمر عمر والده
المرحوم
تماما ، وفي ذات الوقت ايضا من ذروة الضحى ، يتكرر
الحدث ، ولكنه في هذه المرة يتكرر بصورة
اخرى ، يتكرر اخرى ،
يتكرر انصافا وعدلا ، يتكرر عبرة وموعظة لاولي القلوب والابصار
0
كان للابن العاق ثلاثة من الابناء ، وخمسة من البنات ،
وكان من بينهم ولد حاد المزاج ، سيء
الطباع ، شرس الفعال
والخصال ، عندما اصبح في العشرينات من عمره ، شابا قويا يافعا ،
اعتدى
على ابيه بالضرب المبرح ، في ذات المكان والزمان الذي ضرب
اباه العاق جده من قبل وهو لايعلم
بذلك ، وفي ذات العمر والمهنة
ايضا 0
صمت الاب فجاة مذهولا ، والناس من حوله يصرخون بابنه ،
ويحاولون جاهدين ابعاده عن ابيه ،
وحمايته من لكماته الفتية ،
يدافعون عنه وهو تحت رحمة عنفوان وغضب واندفاع ابنه
الشاب0
صمت الاب طويلا ، يتذكر انه وقبل اكثر من ثلاثين
عاما ، ضرب والده هنا في نفس المكان والزمان0
صرخ الاب في الناس
قائلا : اتركوه 00000 يضربني ، رحمة الله عليك ياابي ، فقد ضربتك هنا
في
ذات المكان والزمان ، فكما تدين تدان ولايظلم ربك احدا
0
اتمنى من الله ان تعم الفائدة وان نعتني بوالدين اذا
كانوا احياء ونحسن اليهم لانهم هم البركة