مياه النيل أول فاتورة تدفعها الثورة!
وقع المحظور وبدأت مصر في دفع أول فاتورة باهظة لغياب وعجز النظام
السابق عن التعامل مع أخطر ملف يتعلق بأمن مصر القومي وهو المياه ، ما أضاع
هيبة ودور مصر في أفريقيا الذي استغلته إسرائيل وأمريكا!.
فحتي يوم الإثنين 28 فبراير الماضي 2011 ، كانت خمس دول أفريقية فقط من دول
حوض النيل التسع ( بجانب أريتريا كمراقب) قد وقعت علي الاتفاقية الإطارية
لحوض النيل التي لا تعترف بحقوق مصر والسودان التاريخية الواردة في
اتفاقيات 1929 و1956 في مياه النيل ، بيد أن هذا اليوم شهد انقلابا دراميا
في مسيرة مياه النيل وقد يفتح الباب لحرب مياه مقبلة بعدما وقعت دولة
بوروندي علي الاتفاقية ليصبح عدد الموقعين أغلبية (6 دول من 9 بخلاف
أريتريا ).
توقيع بوروندى علي الاتفاقية - التي تطالب بتقاسم مياه النيل، ومنع مصر
من الحصول علي حصتها الحالية (55 مليار متر مكعب) التي تشكل قرابة 90% من
موارد النيل- يمهد الطريق لإقرار هذه الاتفاقية رسميا بحيث تصبح أمرا واقعا
عقب تصديق برلمانات هذه الدول الست (المؤكد) علي الاتفاقية كي تدخل حيز
التنفيذ في غيبة مصر والسودان وعدم توقيع الكونغو والمتوقع أن يحدث قريبا.
أما خطورة هذه الاتفاقية فهي أنها لا تعترف باتفاقيات مياه النيل
السابقة عامي 1929 و1956 ، ومن ثم تسمح لكل دول حوض النيل بإقامة مشاريع
مائية وكهربائية وحواجز علي مجري النيل تقتطع كمية كبيرة من نصيب مصر من
المياه التي لا تكفيها أصلا حاليا وتلغي ما يسمي حق الفيتو المصري علي بناء
أي سدود علي النيل تهدد مصر.
أما الأخطر فهو التغلغل الصهيوني والأمريكي في حوض النيل في ظل غياب
النظام السابق في مصر وغفلته عن مصالح مصر العليا ، وتوفير الدعم للدول
الأفريقية لتشجيعها علي بناء السدود واحتجاز المياه وتهديد أمن مصر القومي
لتدفع الثورة أول الفواتير الخاسرة للنظام السابق الفاشل في التعامل مع
قضايا أمن مصر القومي!.
فقد ظل النظام السابق غافلا عن مصالح مصر الإقليمية في ظل حالة التقوقع
والغياب عن أفريقيا والعالم العربي والتفرغ للصراعات الداخلية والفساد ،
ولم يفق إلا عقب توقيع 4 من دول حوض النيل علي هذه الاتفاقية الإطارية ،
حيث حاول استمالة بوروندي والكونغو عبر مشاريع ودعم مصري كي لا تلجأ
للتوقيع وتضر مصر ولكن سقوط النظام بعد الثورة الشعبية والإغراءات الغربية
دفعت بوروندي للتوقيع.
هل وصل الخطر مداه ؟
واقع الأمر يقول إن خمسا من دول حوض النيل العشرة ، هي : أثيوبيا
وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا ، وقعت في مايو 2010 علي (الاتفاق الإطاري
الجديد) الذي ينظم العلاقة بين دول حوض النيل والذي يتضمن 40 بندا لم يجر
الاتفاق علي البنود المتعلقة منها بأمن المياه حيث لا تزال مصر والسودان
(دول المصب) يتمسكان بحقهما في حصتهما الحالية من المياه ( 55.5 مليار متر
مكعب لمصر + 18.5 للسودان) ، وحقهما في الموافقة أو الفيتو (الاعتراض) علي
أي مشروع لدول أعالي النيل الثماني يؤثر علي حصتهما من المياه .
وقد قاطعت مصر والسودان توقيع الاتفاق ولم يوقعه اثنان من دول أعالي
النيل (الكونغو وبوروندي) بالإضافة إلى دولة أريتريا كمراقب بعد استقلالها
عن أثيوبيا ) ، وسط تضارب بين من يقول أن توقع ست دول يكفي ومن يقول – مصر
والسودان – إنه يحتاج إلي توقيع كل دول حوض النيل التسع علي الأقل
(باستثناء اريتريا) كي يكون نافذا قانونيا ، ولذلك أعطت المفوضية التابعة
لحوض النيل مهلة للدول للتوقيع علي الاتفاق الإطاري لمدة عام تنتهي في 13
مايو 2011 ، وهو ما دفع بوروندي للتوقيع قبل هذا التاريخ لتحجز مقعدا في
المساعدات الدولية لبناء سدود علي النيل توفر لها الكهرباء.
وقد دخلت الأزمة منعطفا خطرا جديدا بعد إعلان دولة الكونغو الديمقراطية
عن نيتها توقيع الاتفاقية وإعلان بوروندي عن انضمامها للدول الموقعة على
الاتفاقية الإطارية فور انتهاء الانتخابات الرئاسية بها (يونيو 2010) وهو
ما حدث بالفعل.
ففي نوفمبر 2010 الماضي زار نائب رئيس بوروندي مصر وحضر مبعوث الرئيس
وسلم رسالة للرئيس السابق مبارك وعندما سئل حول موقف بوروندي من اتفاقية
حوض النيل الجديدة التي تسعي بعض الدول لاعتمادها والتي لم تكن بوروندي
وقعت عليها بعد ، أكد د . محمد روكارا مبعوث الرئيس ، أن بوروندي لا يمكن
أن تتخذ موقفا ضد مصر، وهي دائما تقف مع مصر، معربا عن أمله في أن تشهد
الفترة القريبة المقبلة حوارا شاملا بين دول حوض النيل بما يحقق مصلحة
الجميع.
وقد أرجع مصدر مصرى مسئول توقيع بوروندى على الاتفاق الإطار لحوض النيل
"اتفاق عنتيبى" الذى ترفضه مصر والسودان، إلا أن الحكومة البوروندية وجدت
أن طريقها مع مصر أصبح مسدوداً خلال الفترة المقبلة بعد الثورة ، وأنهم لن
يحصلوا من مصر على المساعدات التى كانت تتسلمها فى الماضى، وبالتالى فإنهم
وجدوا أن من صالحهم عدم الإبقاء على موقفهم الرافض للتوقيع على الاتفاق
الإطارى، واختاروا السير فى جانب الدول الخمس الأخرى التى وقعت من قبل.
وقال المصدر إن مصر نجحت خلال الفترة الماضية فى فرملة توقيع بوروندى
على الاتفاق الإطارى عبر مساعدات عاجلة وإغراءات، لكن الجانب البوروندى
استغل الأحداث الأخيرة والثورة فى مصر للتعلل بأن هناك حالة فراغ فى مصر
جعلتهم يلجأون إلى الطرف الآخر.
وقال وزير البيئة في بوروندي جان ماري نيبيرانتيجي في تبريره إن الدولة
الواقعة وسط أفريقيا تريد أيضا استخدام مياه النيل في توليد الكهرباء. وقال
: "وضع المانحون (الغرب) دوما توقيع هذه الاتفاقية كشرط لتوفير التمويل
لتشييد هذه المحطات لتوليد الطاقة الكهربائية!.
وبتوقيع بوروندي لم يتبق سوي الكونغو ليرتفع بذلك عدد الدول الموقعة على
الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل إلى 7 دول هي كل دول منابع النيل (لو
وقعت الكونغو) ، فبعد توقيع بوروندي علي الاتفاقية الإطارية "عنتيبي" أصبحت
الاتفاقية قانونية ومعترفاً بها وفقاً لدراسة قام بها مكتب استشاري قانوني
دولي "فرنسي"، أوضح أن توقيع 6 دول من حوض النيل يجعل الاتفاقية قانونية
ومعترفا بها رغم وجود خلافات حول بعض بنود هذه الاتفاقية .
وبرغم تصريحات المسئولين المصريين والسودانيين المطمئنة بأن توقيع أي
اتفاقية منفردة بين بعض دول الحوض يجعلها غير ملزمة لمصر أو السودان إلا أن
تكتل الدول السبع غير المنفرد للتوقيع على الاتفاقية دون إعادة النظر في
البنود الثلاثة التي ترفضها مصر والسودان سيخلق واقعا جديدا وتحديا يصعب
علي دول المصب التحكم فيه.
فالشروط المصرية – وفقا للاتفاقيات المائية القديمة الموقعة في 1929
المتعلقة بعدم المساس بأمن مصر المائي (حصة 55.5 مليار متر مكعب) وضرورة
الإخطار المسبق لكل من مصر والسودان بالمشروعات والسدود التى تنوى دول
المنبع إجراءها على نهر النيل (المشهور بالفيتو المصري) ، وضرورة الموافقة
بالإجماع بين دول حوض النيل على أية تعديلات تجرى على الاتفاقيات القديمة
أو أية تقسيمات جديدة لحصص نهر النيل وليس بالأغلبية كما تطالب تلك الدول
.. هذه الشروط أصبح من الصعب البقاء عليها بعدما ألغتها الاتفاقية الإطارية
وسمحت بالتالي لأثيوبيا ببناء ما تشاء من سدود (بدأت في بناء ثالث سد منذ
أيام يحجز مياه النيل للكهرباء) ولكينيا وأوغندا بحفر ما تشاء من ترع لنقل
المياه لأراضيها بما يقلل حصة المياه الواردة لمصر والسودان مستقبلا علي
مدار سنوات وفقا لمعدل تنفيذ هذه المشاريع !.
فمصر تعتمد على مياه النيل بنسبة 97% في حين أن بعض دول حوض النيل تعتمد
على مياه النيل بنسب تتراوح بين 1 , 3 , وقد تصل إلى 11% فقط من
استخداماتها بسبب غزارة سقوط الأمطار هناك والزراعة علي الأمطار ، ولهذا
بدأ المسئولون المصريون – بعد تهديدات في بداية الأمر بالحرب – بعد غياب
سنوات عن ملف المياه - للحفاظ علي حصة مصر من المياه – بالتهدئة والسعي
لتفاهمات مباشرة وثنائية مع دول حوض النيل وفق إستراتيجية من الواضح أنها
ارتكزت علي أسلوب ضخ استثمارات وفنيين ومشاريع مصرية زائدة لهذه الدول
لتوفير مشاريع اقتصادية توثق العلاقات مع هذه الدول ولا ترفع من درجة
العداء ، وفي الوقت نفسه السعي الحثيث لإقناع هذه الدول بمشاريع مصرية تركز
علي فكرة زيادة موارد النيل للجميع والاستفادة منها.
إذ يبلغ الحجم المتوسط السنوي للأمطار التي تسقط على دول أعالي النيل
حوالي 900 مليارم3 سنوياً يمثل ما يأتي منها من مياه قرابة 137 – 144 مليار
م3، بينما إيراد النيل طبقاً لآخر التقديرات لا يتجاوز 84 مليار م3، يأتي
72 مليار م3، أي 87% من مياه النيل من النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة
تانا في أثيوبيا، بينما يأتي 13% من منطقة البحيرات العظمى أي حوالي 12
مليار م3 ، أي أن هناك كميات ضخمة من المياه تهدر ولا يجري الاستفادة منها ،
ولهذا تقترح مصر بناء سدود وترع تتحكم في هذا الفاقد وتوفره للدول العشر
بما لا يخلق أزمة مائية مستقبلا.
ولا شك أن توقيع ست من دول حوض النيل العشرة حتي الان علي الاتفاقية
الإطارية لحوض النيل التي لا تعترف بحقوق مصر والسودان التاريخية الواردة
في اتفاقيات 1929 و1956 في مياه النيل ، قد خلق أمرا واقعا جديدا وتحديا
خطيرا للأمن المائي العربي بل ولا نبالغ لو قلنا إنه أطلق الطلقة الأولي في
أول حرب مياه حقيقية ينتظر أن يشهدها العالم في عدة مناطق أغلبها مناطق
اشتباك عربية مع دول أخري غير عربية ، وتتهدد غالبية الدول العربية الأخطار
لو اندلعت لأن غالبية الأنهار التي تمر في الدول العربية تأتي من خارجها
وتعتبر الدول العربية دول مصب لا دول منبع.