حـديث المليارات. وإعـادة تأسـيــس الثقــة والشـــرعية
المصدر:
الأهرام اليومى
بقلم:
هناء عبيد
هناء عبيد |
فجرت
المكاشفة التى بدأت بفتح ملفات ثروات وأصول رجال أعمال ومسئولين سابقين
مرتبطين بالنظام أو بالأحرى من رموزه شعورا بالارتياح لفتح قضايا طالما
حامت حولها الشبهات، حيث تواتر الحديث عن فساد بعض هذه الأسماء منذ وقت
طويل، ولكن الارتياح لفتح ملفات الفساد الكبير كان ممزوجا بموجات من الغضب
مبعثه أن أرقام وأحجام الثروات والتجاوزات قيد التحقيق ونطاق قضايا الفساد،
مثل صدمة لأنه فاق تخيلات معظم المصريين ورسخ الانطباع بوجود عملية من
النهب المنظم لثروات الشعب. وليس حوادث فردية من التجاوز، فى الوقت الذى
تعيش فيه فئات معتبرة تحت خط الفقر، وتجد صعوبات فى تأمين العيش الكريم.
هذه
الغضبة الشعبية المرتبطة بقضية الفساد هى على الأرجح المسئولة عن اتساع
نطاق التظاهر منذ الثامن من فبراير مع انضمام فئات من العمال والموظفين
والمهنيين دخلت فى إضرابات واعتصامات مفتوحة، واستمر بعضها حتى الآن،
فبالرغم من الطابع المطلبى أو الفئوى للعديد من اعتصامات وإضرابات العمال
والموظفين، فإن الكثير منها يعكس الشعور بمظلمة كبرى أبعادها تدنى مستويات
الأجور وإهدار الحقوق الأساسية، واختلال هياكل الأجور لمصلحة القيادات
العليا التى جاء أغلبها عن طريق الوساطة والمحسوبية أو الولاء للنظام فى
الوقت الذى يتواتر فيه الحديث عن مليارات شابتها شبهات الفساد والتربح
واستغلال النفوذ.
فالرضا العام فى أى مجتمع مرتبط بشعور المواطن بأن
الدولة تخدم مصالحه أو على الأقل لا تختصمها ومع الكشف عن هذا الحجم من
الفساد أصيبت شرعية النظام الذى سمح بهذا الحجم من الفساد أو تعايش معه أو
تغاضى عنه فى مقتل. كذلك تهافتت فكرة السماح لآليات التصحيح الذاتى بالعمل
فى ظل ذات الترتيبات السياسية، لأن الأجهزة الرقابية التى يكن لها المصريون
ولرموزها الكثير من التقدير، عجزت فى ظل النظام عن القيام بدورها خاصة فى
مواجهة الفساد الكبير، لأنها افتقدت الى الاستقلالية التى تقيها من إمكانية
إجهاض عملها وفقا لحسابات المواءمة السياسية.
ومن ثم فإن تخطى فجوة
الثقة المترتبة على قضايا الفساد يستلزم أن تتواكب الملاحقة الجنائية
للمتهمين بالفساد والتربح وإهدر المال العام وقرارات استرداد أموال وأصول
الدولة ، مع عملية طويلة المدى من وضع سياسات وإجراءات وضوابط فعالة
وتغييرات هيكلية لا تقف عند أعراض المشكلة وإنما تمتد لجذورها، ودعم
استقلالية الجهات الرقابية، مع تفعيل العديد من الاقتراحات والآليات
المطروحة على مائدة الحوار الوطنى منذ فترة، ومن المهم فى هذا الصدد عدم
الاقتصار على المنهج الشخصى المتمثل فى اختيار شخصيات وطنية تحظى بالثقة
والسمعة الطيبة للتصدى للعمل العام وحسب، لأنه إجراء مهم ولكنه غير كاف
لمعالجة جذرية ومستدامة لقضية الفساد.
قضية أخرى ذات صلة تثيرها مسألة
ثروات رجال النظام السابق وحفنة من رجال الأعمال، تستدعى النظر الجاد
والتفكير فى ترتيبات مستقبلية خلاقة فى مسألة الفئات الرابحة فى ظل نظام
ما، الأمر الذى يرتبط بشرعية النظام ومقبوليته ، فمليارات حفنة من رجال
الأعْمال بعيدا عن قضايا الفساد تشير الى ان الرابحين من النظام السابق،
ومن ثم المستفيدين اقتصاديا من استمراره هم عدد قليل من أصحاب الحظوة
استفاد بعضهم من شبكة العلاقات السياسية والمزايا غير المتكافئة فى جمع تلك
الثروات بالرغم من أن كل مجتمع من الطبيعى أن توجد فيه تلك الطبقة الثرية
أو بالغة الثراء، ولا يعتبر الانتماء إليها بحد ذاته مبعثا للشك أو انتقاصا
من الوطنية، إلا أنه فى ظل غياب الضوابط وآليات احترام القانون والمساءلة،
وتكافؤ الفرص، ومع شبهات اختطاف الدولة من قبل بعض المنتمين لهذه الفئة
فإن شرعية النظام تصبح محل شك كبير.
فقد انقسم المجتمع المصرى على مدى
السنوات السابقة الى شريحة محدودة بالغة الثراء تليها شريحة أكثر اتساعا من
ميسورى الحال الذين استفادوا من بعض الإصلاحات الاقتصادية التى فتحت
الطريق أمام العمل الخاص، وقللت من القيود البيروقراطية. أما السواد الأعظم
من المصريين والذين يشكلون الطبقة الوسطى بأطيافها ومستوياتها المختلفة،
والشرائح العليا من الطبقة الدنيا فهم يعانون من فترة طويلة من ركود
أوضاعهم الاقتصادية على أفضل تقدير، ومن اللهاث المستمر وراء تأمين مستوى
لائق من الخدمات الصحية والتعليمية وبعض السلع الاستهلاكية التى اعتبرت
دوما مؤشرا للرفاهية أو الرضا العام، ناهيك عن أن خمس الشعب المصرى يقع تحت
خط الفقر، مع ما يستتبعه ذلك من تردى أوضاعهم المعيشية فى ظل غياب شبكات
للضمان الاجتماعى يمكن التعويل عليها.
وقد اسهمت هذه الأوضاع فى تدمير
شرعية النظام، وهو ما تجلى فى امتداد الثورة الى شرائح وقطاعات لم يكن
متصورا من قبل أن تشارك فيها لشعورها بمظلمة كبرى على كل الاصعدة. فبالرغم
من أن شلل الحياة الاقتصادية على مدى الأسبوعين أو أكثر كان ثقيل الوطأة
على العاملين الأجراء، واصحاب المشروعات المتوسطة والصغيرة، والعاملين فى
بعض القطاعات وعلى رأسها السياحة ، إلا أن الحديث عن هروب الاستثمارات أو
انهيار البورصة كان حديثا غير مؤثر فى مواقف معظم المصريين على الأقل فى
المدى القصير، لأن صعود البورصة أو توافد الاستثمارات لم يكن ينعكس على
مستوياتهم المعيشية بشكل مباشر أو يفيدهم بطريقة متوازنة مع فئات أخرى
محدودة.
والحديث عن اعادة تأسيس الثقة والشرعية على الصعيد الاقتصادى
لمصلحة الفئات الأوسع من المجتمع لا يعنى بالضرورة الانتكاس عن خطوات
الإصلاح الاقتصادى التى اعتبرت على مدى الفترات السابقة ووصمها بأنها ضارة
أو غير مجدية فى مجملها، كما لا يعنى اختصام طبقة رجال الاعمال والتضييق
عليها، أو العودة بالضرورة الى الاعتماد على الدولة أو القطاع العام كمصدر
للتوظيف، إنما يستدعى ضرورة الالتفات الى مسألة الحقوق الاجتماعية
والاقتصادية الاساسية كمدخل اساسى لترسيخ شعور المواطن بأن الدولة تراعى
مصالحه بشكل متوازن أو لا تخصم من حقه فى العيش الكريم.
وتشير الاجراءات
الاخيرة الحكومة تسيير الاعمال الى وعيها بهذه القضية عكسته إجراءات زيادة
المرتبات، وهى وآن كانت إجراءات مهمة من منظور إدارة الأزمة إلا أنها غير
كافية على المدى الطويل لتأسيس شرعية جديدة، حيث يلزم لإعْادة تأسيس الثقة
والشرعية دعم آليات التفاوض الجماعى والنظر فى العديد من القضايا المعلقة
مثل إصلاح الاختلالات فى هيكل الأجور وإيلاء الاعتبار اللازم للحقوق
الاجتماعية والاقتصادية والأساسية والانحياز للكيانات والمشروعات المتوسطة
والصغيرة، وغيرها من السياسات والاجراءات التى تعزز من استجابة الدولة
لاحتياجات مواطنيها وتؤسس لشرعية مستقبلية تحظى بالقبول والتوافق العام.