ربما تكون واحداً ممن فوجئ بدموع " جدته " تتساقط فور الإعلان عن نبأ تنحى
مبارك، أو ربما تكون قد مررت بالبقال، أو بواب عمارتك فى اللحظة نفسها فوجدت رد
الفعل نفسه، أو حتى ربما يكون عمك أو خالتك قد هاتفك فور إعلان النبأ فوجدته فى
الحالة نفسها، ولعلك تدرك أنه من الطبيعي أن يبكى المنتفعون الرئيس، حسرة على
مصالحهم التى طالما ارتبطت بوجوده وضاعت باختفائه، وهكذا يظل كل من بكاه من خارج
هذا التصنيف محلاً لحيرتك، واندهاشك.
فالحاجة أم سيد البالغة من العمر 82 عاما أخذت تبكى فور إعلان نبأ التنحى وكأنه
قد مات أقرب الناس إليها، فهى على قناعة تامة بأن هناك من خانوا الرئيس، وأخفوا عنه
حقائق وواقع الشعب المصرى وطعنوه فى ظهره طعونا كثيرة، وأن ابنه جمال هو السبب،
تقول:" مبارك افتكر إن جمال ابنه هيبقى عينه على الشعب، وهينقله كل مشاكله ومش
هيوقعه فى حاجه غلط بس ده محصلش، وخانه مع ناس تانية زى أحمد عز عشان خاطر الفلوس،
أنا شوفته فى التليفزيون قعدت أعيط عليه، شوفت وشه إسود إزى ، طبعاً كل دى من
الخيانة اللى عاشها وكسرة ابنه له، والراجل عضمة كبيرة ميستحملش كل ده".
ترفض الحاجة أم سيد أيضاً قيام المتظاهرين فى ميدان التحرير بتعليق دمية مشنوقة
، فتقول " مش معقول وصل بنا الحال إننا نشنق الرئيس مبارك ، دى إحنا معملناش كده مع
شارون ".
ويشاطرها الأحزان الحاج عبد الجواد البالغ من العمر 75 عاماً، فهو مقتنع تماماً
بأن أى عصر من العصور لا يخلو من الشوائب والأخطاء، ولكنه على ثقة بأن مبارك من
أعظم رؤساء الأمة العربية، وأنه حمى مصر من الإسرائيليين، يقول: " مبارك ده قائد
عظيم ، لازم نفتكر اللى عمله فى حرب أكتوبر وبعدها ، مش نرميه كده، يعنى نأخده لحم
ونرميه عضم؟!".
دموع المصريين " عشرية "
وفى تفسير لهذه الحالة يؤكد الدكتور على ليلة عميد كلية الآداب عين شمس أن تأثر
كبار السن برحيل مبارك يرجع لانخفاض مستواهم التعليمى والثقافى، وسيطرة العاطفة
الجياشة عليهم، فهم ليسوا على وعى بالأخطاء السياسية التى ارتكبها مبارك فى حق
الشعب المصرى ، مضيفا أنهم ربما يكونون من الفئة غير المضارة من وجود مبارك أو
عدمه، فهم مستقرين إلى حد كبير، وليست لديهم مطالب اصلاحية.
ويشير أستاذ علم الإجتماع إلى أن دموع هؤلاء الكبارعلى مبارك، هى دموع نابعة من
منطق "العشرة " التى يتمسك بها المصريون، وهذه الحالة أقرب ما يكون إلى البكاء على
جار لهم "عزّل " مثلاً، موضحاً أن هذا يدل على كرم الشعب المصرى الذى قد لا ينظر فى
كثير من الأحيان إلى المساوئ والتخلف الذى أحدثه مبارك على مدار السنوات.
من جهة أخرى يوضح الدكتور على ليلة أن استياء كبار السن من الإهانات التى وجهت
لمبارك هى نوع من تمسكهم بالأخلاق التقليدية القديمة التى تدعو إلى التمسك بفرد يضر
المجتمع، مشيرا إلى أنه يجب فى هذه المرحلة التحلى بالأخلاق الحديثة التى تدعو إلى
التخلص من فرد لمصلحة المجتمع، مؤكداً على أن الحياة لا تسير وفق منطق العاطفة
.
ومن جهته ينصح أستاذ علم الإجتماع المقربين من كبار السن بشرح الأحداث الجارية
والمستقبلية باستخدام مفرادت الحياة الخاصة بهم، والقريبة لمستوى فهمهم واستيعابهم،
مشيراً إلى تجربته الشخصية فى ذلك مع أحد سائقى التاكسى، حيث شرح له التغيرات
الإيجابية التى سوف تلحق بمصر من جراء هذه الثورة العظيمة ، قائلاً: " أنت عارف إنه
دى حاجة مفيدة لأولادك، وأحفادك، اللى هيلاقوا بعد كده مدارس مرتاحة، وكمان لما
يتخرجوا يتوظفوا من غير واسطة، ولا أنت عايز تفضل فى عيشة ضنك طول حياتك ".
وأشاد ليلة بثورة الشباب التى أدخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، موضحا
أنها ثورة خارقة للطبيعة، وهى ثورة حضارية سلمية على مستوى راق، قامت بقلب صورة
العرب المتعارف عليها فى الغرب على أنهم متخلفين ودمويين.
قلق التغيير
متفقاً مع ما سبق، يشير الدكتور أحمد عبدالله أستاذ الطب النفسى بجامعة الزقازيق
إلى أن هؤلاء الكبار الذين بكوا مبارك ربما يكونوا من غير المضارين بشكل مباشر من
النظام، فهم ليس لديهم مظلمة مباشرة، أو ليس لديهم ابن معتقل، أو غريق عبارة أو
شهيد فى أقسام البوليس، مضيفاً أن هؤلاء الكباريخضعون لنظرية " العادة والتعود "
التى تسيطر عليهم، فهم غير قابلين بشكل كبير لعملية التغيير، مما يؤدى إلى إصابتهم
بما يسمى فى علم النفس بـ " قلق التغيير " فيحدث لهم نوع من القلق والخوف والتوتر
من تغير الوضع الذى ظل سائداً لمدة 30 عاماً وهى فترة زمنية طويلة جداً، بالإضافة
إلى نظرية " تقديس الرموز " التى يتمسك بها كبار السن فبعضهم على قناعة تامة بأن
مبارك " رمزاً " لا يجوز اهانته أو تشوه صورته مهما فعل.
وفى النهاية يؤكد أستاذ الطب النفسي على أن مصر فى مرحلة صراع القيم، وأنه على
الرغم من أهمية قيم مثل تقديس الرموز، و المحافظة على العادات، لكن هناك قيماً أكثر
أهمية فى هذه المرحلة، وهى بالطبع الحرية، والعدالة، والديمقراطية.