الحمد لله الذي لا يبلغ أحد كفاء نعمته، ولا معادلة فضله وإحسانه، والصلاة والسلام على عبده المجتبى ورسوله المصطفى وخاتمة عقد رسالاته المبعوث للناس أجمعين برسالة رب العالمين، والداعي إلى صراط الله المستقيم، ودينه القويم سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم... وبعد،،،
فهذا جمع لشعب الإيمان في ترتيب لم يسبق إليه وتنسيق بديع قد وفق الله إليه: يعرف قارئه بحقيقة الإيمان، وكيفية بنائه، وأين تقع أسسه وأركانه، وسوره وأبوابه، وزخارفه ونقوشه وألوانه، وكيف يتذوق المؤمن حلاوته، ويعيش في بستانه وجنته.
وأسأل الله أن يرزقني تمامه وكماله كما رزقني بدايته وافتتاحه، وأن يلهمني رشدي ويقيني شر نفسي.
الإيمان هو الدين كله:
اعلم -رحمني الله وإياك- أن الإيمان هو الدين كله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان].
فدل ذلك على أن كل ما أمر الله به من خبر يجب تصديقه، أو عمل يوجب أو يستحب فعله، فهو داخل في مسمى الإيمان.
فالشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدق، والصبر، والأمانة، والحلم، والحياء.. كل ذلك من شعب الإيمان.
ولما كان الأمر يستلزم ترك ضد المأمور. كان الإيمان هو الدين كله أمراً ونهياً.
وبيان ذلك أن الأمر بالتوحيد نهى عن الشرك ولا يكون العبد موحداً لله إلا إذا ترك الشرك كله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي نفي كل شريك مع الله، وإثبات الألوهية لله وحده، وكذلك الأمر بالصلاة نهي عن إضاعتها، والأمر بالحياء نهي عن الفحش والفجور، وسقوط المروءة، والأمر إماطة الأذى عن الطريق نهي في ذات الوقت عن أذية المسلمين، وإلقاء الأذى في الطريق!!
وهكذا تصبح كل شعبة من شعب الإيمان قد أمر العبد بها يقابلها شعبة من شعب الكفر أو النفاق، أو الظلم، قد نهى عنها العبد.
ومجيء النص بالنهي عن شعب الكفر والشرك والنفاق والظلم هو من باب التأكيد والبيان، وإلا فالأمر بالشيء يستلزم بالضرورة النهي عن ضده.
الشعبة الأولى: لا إله إلا الله:
أول شعبة من شعب الإيمان وأعلاها هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه الشعبة هي أعظم الشعب وأعلاها وأهمها ويتضمن شهادة أن لا إله إلا الله المعاني الآتية:
(1) معنى الإله: الإله في اللغة هو المعبود حقاً كان أو باطلاً فكل ما يقدس، ويعبد، ويرجى منه النفع، ويخاف منه الضر تسميه العرب إلهاً، ولذلك سموا الشمس (الإلهة) وسموا أصنامهم آلهة، واتخذوا الملائكة آلهة بعد ما اعتقدوا أنهم بنات الله، وأن لهم شفاعة عند الله، وكان لكل قبيلة من العرب صنماً لهم، حتى اجتمع عليها وقت الرسالة ثلاثمائة وستين صنماً لم تحطم إلا بعد فتح مكة.
ولما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده.
قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد}. الآيات
وقال قوم إبراهيم لما حطم إبراهيم عليه السلام أصنامهم: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} {قالوا أأنت فعلت هذا بآبائنا يا إبراهيم}
وتسمية الكفار أصنامهم ومعبوداتهم آلهة إنما هو من باب إطلاق الأسماء على غير مسمياتها لأن هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله ليست آلهة في ذاتها، وعندما عبدت وهي لا تستحق العبادة، فإن الإله في الكون كله لا يكون إلا واحداً، ومحال أن تتعدد الآلهة وبيان هذا في الفقرة التالية.
لا يستحق الألوهية إلا الخالق الرازق المالك:
الألوهية لا يستحقها إلا من خلق عبده، وأوجده من العدم، ورزقه،وملكه، فمن هذه صفته فهو الذي يستحق أن يعبده العبد وأما من لا يخلق، ولا يرزق، ولا يملك فكيف يكون إلهاً معبوداً. فمن عبد مخلوقاً مثله، مساوياً له في الاحتياج والفقر، أو مخلوقاً أعلى منه، ولكنه كذلك محتاج إلى غيره، فقير إلى إلهه ومولاه، فهو ضال بلا شك، ومن عبد من لا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً، فقد وضع العبادة في غير محلها وأضل من ذلك من عبد من دونه في الخلق كالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابده شيئاً، بل هو نفسه محتاج إلى عابده لأنه هو الذي يصنعه، ويقيمه ويدافع عنه، فكيف يرجو العبد من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً، وأضل من هذا من يعبد عدوه الذي لا يريد له إلا الضر، ولا يسعى إلا في هلاكه ولو عبده ما عبده ما انفك عن عداوته، ولا قصر في خباله، وهذا حال عابد الشيطان سراً أو جهراً، قالاً أو حالاً علم أنه يعبده أو جهل أنه يعبده، لا أضل من هذا إذ كيف يقدس الإنسان من لا يريد به إلا الضر، ولا يسعى له إلا في الهلاك والشر.
والعجب أن عامة البشر على هذا الضلال!! فهي تعبد وتؤله من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أو من يضرهم ولا ينفعهم.
الإله لا يكون إلا واحداً:
والألوهية محال أن تكون في الكون إلا لإله واحد لأنه لو فرض أن يوجد في الكون إلهين لفسد هذا الكون بالضرورة لأن وجود إلهين كل منهما يخلق ويرزق ويملك ويحيي ويميت سيوجب بالضرورة أن يعلو كل منهما على الآخر، وأن يعادي كل منهما الآخر، ويحاربه ليكون الملك له وحده، والخضوع له وحده، أو أن يذهب كل إله منهما بما خلق، وينفصل كل منهما عن الآخر، قال تعالى: {بل جئناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذوا الله من ولد وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}
ولو كان هناك أكثر من إله لحصل الفساد في الكون. قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً}
أي لو كان هناك آلهة مع الله كما يدعي المشركون لاتخذ هؤلاء الآلهة طريقهم إلى مغالبة صاحب العرش. تعالى الله أن يوجد من يغالبه، بل جميع الموجودات هي من مخترعاته ومصنوعاته، وكل شيء في الوجود غيره إنما هو من صفته وإبداعه وخلقه وهو في قبضته ومشيئته وتحت قهره وحكمه، لا يخرج صغير أو كبير عن أمره وقضائه. قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} والمعنى لو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدت السماوات والأرض وذلك بحرب هؤلاء الآلهة بعضهم بعضاً، ومغالبتهم للرب الإله!! سبحانه وتعالى أن يوجد من يغالبه أو يشاركه في صغير أو كبير في الملك.
وحدة الخلق دليل على وحدة الخالق:
ومن أعظم الأدلة على أن الإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه، هو وحدة الخلق، فالسموات والأرض ومن فيهما وما فيهما في وحدة متناسقة متجانسة وكأنها أجزاء في آلة واحدة، أو أعضاء في جسد واحد أو لبنات في بناء متناسق بديع، كل لبنة منه في مكانها الصحيح، ولو اقترح تعديل شيء أو تبديل شيء عن موضعه، ونقله إلى غير مكانه لأدى ذلك إلى فساد عظيم، فالشمس في مكانها من الأرض تماماً، ولو اقتربت منا شيئاً لاحترقنا، ولو بعدت عنها شيئاً لتجمدنا، والقمر في مكانه منا تماماً، ولو اقترب منا لأغرقتنا البحار ولو ابتعد عنها لانهارت الحواجز بين العذب والمالح من بحارنا، والهواء الذي نستنشقه وبه حياتنا من حيث خواصه ومكوناته مناسب للحياة تماماً، وأي تبديل فيه يعني نهاية الحياة على الأرض، وهكذا كل شيء إنما هو بمقدار وميزان. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين* وحفظناها من كل شيطان رجيم* إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين* والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون* وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين* وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقر معلوم* وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكم وما أنتم له بخازنين* وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون* ولقد علما المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين* وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} (الحجر:16-25)
وهذه الوحدة المتناسقة في الخلق كله من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة من أعظم الأدلة على أن الخالق إله واحد لا إله إلا هو سبحانه وتعالى وأنه ليس هناك من ينازعه أو يغالبه أو يشاركه.
الإله الواحد لم يجعل لأحد معه شركة في خلق أو أمر أو ملك أو عباده:
والرب الإله الواحد الذي خلق الخلق كله، وأبدع العالم وحده، وهو رب العالمين، وليس معه رب غيره، قد جعل الخلق له وحده، ولم يشأ أن يكون لغيره خلق ذرة واحدة من هذا الكون حتى لا يدعي مدعى أن له شركة معه في الملك، وهكذا فالملائكة لا يخلقون، والجن لا يخلقون والإنس لا يخلقون، بل كلهم مخلوقون، وكما جعل الله سبحانه وتعالى الخلق له وحده، فقد جعل الرزق له وحده، لأن الرزق فرع الخلق فهو الذي ينزل المطر، ويخرج الزرع، ويقدر أقوات عباده، وهو الذي ذخر الأرض بما ذخر من المعادن والخيرات. قال تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم:32-34)
وقال تعالى: {والله أنزل من السماء ماءاً فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون* وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين* ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون* وأوحي ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون* ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد من علم شيئاً إن الله عليم قدير* والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هو يكفرون* ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون* فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} (النحل:65-74)
وقال تعالى: {خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون* خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين* والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون* ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون* وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم* والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون* وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين* هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون* ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذل لآيات لقوم يعقلون* وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون* وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبلغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون* وعلامات وبالنجم هو يهتدون* أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون* وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم* والله يعلم ما تسرون وما تعلنون* والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهو يخلقون* أموات غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون* إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} (النحل:3-22)
وهكذا فإن الرب الإله سبحانه وتعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما فيهما، وجعل جميع العالمين ممن أسكنهم السموات والأرض (الملائكة والجن والإنس، والطير، والوحش) كلها فقيرة محتاجة إلى إلهها وخالقها إذ هو المتكفل وحده سبحانه وتعالى بإيجادها وإحيائها، وموتها ورزقها، وهو العليم بها الذي لا يغيب عنه صغير ولا كبير من أمرها. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}
وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}
خلق الله الخلق لحكم عظيمة ومنها أن يعبدوه وحده لا شريك له:
وقد خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق الذي لا يحصيه غيره، ولا يحيط به علماً سواه لحكمة عظيمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، ومن ذلك ما أخبرنا به جل وعلا وهو أن يعبده وحده لا شريك له ونسبحه وننزهه، ونقدسه، ونحمده، وأخبرنا أنه يحب ذلك وأنه لا يرضى من عباده سواه. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
وقال تعالى: {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم، ومن يدع مع الله إلهاً آخر فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذي آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}
وقال تعالى: {وما خلقنا السمات والأرض وما بينهما لاعبين، ولو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون، إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان:38-40)
الله غني عن خلقه أجمعين والمخلوقات كلها فقيرة إليه:
والرب الإله الواحد سبحانه وتعالى غني عن خلقه كلهم فلا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى عرشه ولا إلى كرسيه ولا ملائكته ولا الجن والإنس ولا السموات والأرض بل هو الغني سبحانه وتعالى عن كل ما سواه، الحي القيوم الذي لا يؤوده شيء، ولا يصيبه نصب ولا لغوب، ولا يكرثه أمر، ولا يعجزه شيء وكل المخلوقات في حاجة إليه إذ هو سبحانه وتعالى خالقها ومدبر شؤونها، ومقيمها حيث تقوم ومزيلها كيفما يشاء، ووقتما يشاء، وهو الذي أعطى كل شيء قدره ومقداره، وحده وأركانه وتصرفه وبقاءه، وهو الذي يملك فناءه وزواله لا إله غيره، ولا رب سواه.
والعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها لا تنفعه كما أن معصية العصاة لا تضره، ولا يستطيع أحد أن يزيد في ملك الله شيئاً ولو ذرة، ولا أن ينقص من ملكه شيئاً، ولو ذرة واحدة.
ولا يبلغ أحد من خلق الله نفع الله فينفعه، ولا ضر لله فيضره [يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا أخري فتضروني].
الرسل جميعاً من أجل هذه الرسالة:
ومن أجل هذه المهمة أرسل الله الرسل. قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} والطاغوت هو كل من عبد من دون الله راضياً بذلك، مريداً لذلك، ورأس الطواغيت هو إبليس الملعون وذريته الداعين الناس إلى معصية الله، وعبادة الأصنام والآلهة الباطلة، والأصنام طواغيت.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن عباد الطواغيت هم وآلهتهم التي عبدوها يلقون جميعاً في النار: العابد والمعبود. قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون}
وأما الذين عبدوا من دون الله بغير رضاهم كعيسى ابن مريم عليه السلام، وأمه عليها السلام، فإنهم مبرءون من الإثم، مبعدون من النار وذلك أن الذين عبدوهم قد عبدوهم بغير رضاهم، فإن عيسى لم يطلب من عابديه أن يعبدوه بل ما أمرهم إلا ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخبرهم أنه عبد الله وليس إبناً لله، وأن الأمر كله والخلق كله لله، وأنه ليس له مع الله أمر أو شركة، ولذلك يبكت من عبدوا عيسى عليه السلام يوم القيامة ويفضحون على رؤوس الأشهاد، ويظهر لكل الناس في الموقف العظيم يوم القيامة أنهم كانوا كاذبين في ادعائهم أن عيسى إن الله وأنه إله كامل من إله كامل يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدخل الجنة،ويدخل النار، ويدين الأحياء والأموات، ويجلس يوم القيامة على يمين أبيه ليدين الخلق ويحاسبهم. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً أن يكون له ولد أو أن يكون معه إله...
وقد قص الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن كيف ستكون الندامة الكبرى يوم القيامة لمن عبدوا المسيح ابن مريم فقال الله سبحانه وتعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب* إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين* وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون* إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} (المائدة:109-113)
وهكذا يظهر للجميع كذب من قال إن عيسى هو ابن الله إله من إله، يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ويدين الأحياء والأموات، وأنه يعبد كما يعبد الله، وهذه أكبر كذبة في الأرض، وقد صدقها الملايين من البشر بعد الملايين، وعاشت عليها أجيال وقتل في سبيلها خلق لا يحصيهم إلا الله، وأنفق في سبيل نشرها وترويجها أموال لا يحصيها إلا الله وذلك منذ ظهرت هذه الكذبة قبل نحو ألفي عام وإلى يومنا هذا فسبحان من يضل من يشاء ويهدي من يشاء والعجب أن الذي افتروا هذه الكذبة الكبيرة لم يستطيعوا أن يقيموا عليها دليلاً عقلياً واحداً، ولا عندهم بها إثارة علم، فكيف يعقل أن يكون بشر مولود من رحم امرأة يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام ويمرض ويجوع ويعطش ويتألم إلهاً خالقاً للكون رازقاً للبشر متصرفاً في العباد!!
والعجب أن الذين افتروا هذه الفرية وأصموا آذانهم عن سماع الحق من قول عيسى نفسه، ومن قول الذين آمنوا به حقاً وصدقاً ومن قول الرسول الخاتم المبعوث بالرسالة الخاتمة إلى الناس أجمعين، ومثيل ذلك وبعده من قول رب العالمين وإله الخلق أجمعين الذي أنزل في التوراة والإنجيل والقرآن أنه الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه وأنه لم يتخذ قط صاحبة ولا ولداً، والعجب أن يصموا آذانهم عن كل ذلك ويغلقوا أعينهم عن رؤية الحق، ولا يفتحوها إلا يوم القيامة حيث لا ينفعهم عند ذلك السمع والبصر قال تعالى: {اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}
والمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة!! عندما يقفون بين يدي الله الرب الإله الواحد سبحانه وتعالى حيث يعلمون علم اليقين أنه لا إله هو، وأنه لم يكن له ولد أو كان معه إله غيره... ولكن هؤلاء الظالمين الذين لا يقحمون آذانهم وأعينهم إلا يوم القيامة قد كانوا في ضلالهم سادرين غافلين، مكابرين مصرين في الدنيا. قال تعالى حاكياً حال هؤلاء الضلال في الدنيا والآخرة: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراطي مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون* إن نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} (مريم:34-40)
لا إله إلا الله أظهر الحقائق على الإطلاق وأكثر الحقائق تكذيباً على الإطلاق:
كون أن الله سبحانه وتعالى هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو هي أعظم الحقائق ظهوراً فبراهين هذه الحقيقة وأدلتها لا يمكن حصرها، ولا يستطيع أحد عدها، ومع ذلك فلا يوجد حقيقة حصل لها من التكذيب ووقع فيها من الضلال والعناد ما وقع في هذه الحقيقة.
فإن عامة البشر إلا القليل منهم مكذب في هذا الأمر أو ضال، وقليل من العباد من هداهم الله إلى شهادة أنه سبحانه الإله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد والذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ولكن عامة الإنس والجن مكذبون جاحدون ضالون عن هذه الحقيقة فسبحان من له الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وسبحان من هدى من شاء إلى معرفته وطاعة وعبادته، وأضل من شاء فأصمه وأعمى بصره.
وسبحان الله القائل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف:179)
والحمد لله رب العالمين،،