بعد استعراضه لحال التعليم فى العالم العربى وما يعنيه ذلك بالنسبة لمجمل وضع العرب
اليوم على الساحة الدولية مقارنة بما كان عليه عقود نهضة العرب وتقدمهم ــ يشرح
الدكتور أحمد زويل فى هذا الجزء الثانى من الحلقات الثلاث «ثورة العرب القادمة
ـــــ تأملات فى مسألة النهضة العربية... إصلاح التعليم» رؤيته لتحويل منظومة
التعليم، بمراحلها المختلفة، من آلية تلقين إلى منهج للمعرفة، مستعرضا فى الوقت
ذاته دور المجتمع فى الإسهام فى هذا التحويل وكذلك التبعات التى تقع على عاتق
المجتمعات العربية فى حال ما لم تتحرك نحو هذا الإصلاح المنشود.
الإعلام والمجتمع
لم يكن فى الأوضاع
المجتمعية فى العالم العربى إجمالا ما يسهم فى تحسين مستوى التعليم فى الدول
العربية، ذلك رغم أن أكثر من 35 بالمائة من سكان العالم العربى هم أطفال دون سن
الخامسة عشرة بما كان يمكن أن يمثل مخزونا هائلا للطاقة البشرية لو أحسن تعليمهم ـ
لكن ذلك للأسف لم يتحقق بعد.
فى الوقت نفسه فإن مستوى البطالة فى المنطقة
العربية يتراوح ما بين 10 إلى 20 بالمائة.
وبسبب الضيق الاقتصادى فإن قدرة
الاسرة المصرية على تنشئة أبنائها تعد تحديا ضخما اليوم إذا ما قورنت بما كا عليه
الحال من نحو 50 عاما. ذلك بينما يبلغ عدد الأسر المعيلة من قبل النساء فى المجتمع
المصرى نحو 30 بالمائة من إجمالى الأسر المصرية وذلك لجملة من الأسباب من بينها
انتشار حالات الطلاق وتولى النساء مسئولية تنشئة الأبناء.
وسائل الأعلام غير قادرة
من ناحية أخرى، فإن وسائل
الإعلام فى البلدان العربية لا تبدو قادرة أو مؤهلة على نشر الارتقاء بقيم العلم
والتعلم وذلك رغم الزيادة المذهلة فى أعداد الجرائد والمجلات الصادرة فى هذه
البلدان وبالرغم من تزايد عدد القنوات الفضائية التى تبث برامجها على شاشات
التليفزيونات العربية ليبلغ أكثر من 500 قناة ــ أكثرها يعنى بالترفيه
والتسلية.
منذ بضع سنوات تصادف أن تزامنت زيارتى إلى مصر مع وصول مكوك
الفضاء «آوبورشيونتى» إلى سطح المريخ بعد إطلاقه من قبل وكالة ناسا. وبينما كان
العالم كله يتابع وصول آوبورشيونتتى باهتمام بالغ فإن الأمر لم يكن إطلاقا على
أجندة الاهتمامات المصرية لدرجة أننى لم أجد سوى خبر مقتضب عن تلك القصة العلمية
الكبيرة فى واحدة من الجرائد الصباحية.
وبينما يقدر ما ينفقه المواطن المصرى
فى متابعة وسائل الإعلام المتاحة لديه بثلت اليوم الفعال فإن وسائل الإعلام هذه لا
تعبأ كثيرا، أو دوما، بأن تقدم لمشاهديه معلومات لها طابع الثقافة العلمية أو
التحليلات العميقة لها، وبالذات على المستوى العالمى. وقد بلغ العبث مداه لدرجة أن
مقدم أحد أكثر البرامج مشاهدة فى مصر تحدث عن ظاهرة التغير المناخى بسطحية غير
مقبولة قائلا إنه ينبغى على العالم أن يعرف من السبب وراء تغيير المناخ: «إيه اللى
غيّر الجو بالطريقة دى؟ علينا جميعا أن نعاقب المتسبب فى ذلك حتى لو كان الجانى أحد
البلدان».
من ناحية أخرى فإن الثقافة فى مصر، والعالم العربى بأسره، تبدو
محاصرة. ومن ظواهر حصار الثقافة هو نشأة ثقافات فرعية يمكن لها بصورة ما أن تسيطر
على الثقافة الأم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد.
وعلى سبيل المثال فى
مصر، فإن هناك ثقافة مختلفة للطلاب رواد المدارس الخاصة، التى تسعى الكثير من الأسر
الميسورة لإلحاق أبنائها بها بحثا عن تعليم أفضل، تختلف كثيرا عن ثقافة طلاب
المدارس الحكومية حيث إن ثقافة طلاب المدارس الخاصة هى بالضرورة أقرب لثقافة
البلدان المنتجة للنظم التعليمية فى هذه المدارس منها للثقافة المصرية
المشتركة.
الثقافة والهوية
العربية
ولا أجادل على الإطلاق فى أهمية تعليم اللغات الأجنبية ولكن
ما أقوله إنه فى غياب تعليم كفؤ للغة العربية وفى غياب حضور واضح للثقافة العربية
فإن طلاب المدارس الأجنبية يصبحون فى خطر الابتعاد عن لغتهم الأم وثقافتهم الأم وهو
الأمر الذى يهدد على نطاق أوسع بتفتيت البناء الثقافى ــ وفى هذه الحالة أيضا
الاجتماعى والاقتصادى ــ للمجتمع المصرى. وينطبق ذلك عن مجتمعات عربية أخرى أصبحت
قطاعات منها، كما فى مصر، تعانى من آثار التقليد الأعمى الذى يقوم به شباب هذه
المجتمعات لما يتابعونه فى برامج تليفزيونية غربية ــ بينما هذه البرامج لا تقدم
بالضرورة ما يعبر عن عمق وثراء الثقافة الغربية بما فى ذلك الثقافة الأمريكية.
كما ينبغى ملاحظة أن قياس مدى تمدن وتقدم المجتمعات العربية بما تبثه
تليفزيوناتها من مواد ترفيهية مأخوذة عن القنوات التليفزيونية الغربية والأمريكية
هو قياس مغلوط حيث إن السعى نحو التقدم والمدنية الحديثة ليس بحال سببا لتجاوز
الهوية الثقافية للدول الآخذة فى النمو والتقدم.
أما فيما يخص الدين فلقد
تراجع الإيمان بالمبادئ السامية والممارسات الفضلى التى تحض عليها الأديان أمام
سلوكيات هى بالأساس مظاهر شكلية قد يصل الإصرار عليها فى بعض الأحيان إلى سياقات
للإرهاب المجتمعى والفكرى، بل العقائدى.
وأعتقد أن خلط السياسة والدين لخدمة
أهداف سياسية هو واحد من مسببات الالتباس المجتمعى، إلى جانب ذلك فإن الانغماس فى
محاولة الحصول على الآراء من شخصيات لا تتمتع بغزارة وافية من المعلومات الدينية
الصحيحة تسبب فى تغييب طاقات المجتمع عن البحث عما هو منتج والاقتصار على الاهتمام
بما هو سطحى وظاهر للعيان وبالتالى تغييب أسباب التفكير والتحليل بما وصل بالذهنية
المجتمعية لكثير من الناس لحالة من التكلس.
ولعل أخطر ما يهدد المجتمع
المصرى، على سبيل المثال، نمط من أنماط التفتيت المجتمعى يقوم فكر أصحابه على
التعصب للولاء الدينى ورفض الآخر واعتماد العنف آلية للتعبير عن هذا
الرفض.
إن إطلاق الحديث العاطفى الخاوى من المضمون والأفكار البناءة لا يسهم
بحال فى التعامل مع المشكلات التى يواجهها المجتمع النامى، وفى رأيى فإنه ليس من
سبيل لتحقيق التقدم إلا إذا ما تمسكت المجتمعات بالحرص على التوافق بين أبناء الوطن
الواحد والتجأت إلى تحكيم العقل والمنطق. والطريق الرئيسى نحو هذا الهدف يبدأ عند
نقطة مفصلية وهى تطوير التعليم.
الإصلاح النوعى
والشامل
من الجلى أن منظومة التعليم فى حاجة لعملية إصلاح شاملة
وكبرى. والعملية التعليمية، بالنسبة لأى مجتمع تقسم بين التعليم الأولى الابتدائى
والاعدادى، والتعليم الثانوى والتعليم الجامعى ثم التعليم العالى القائم على البحث
والتطوير.
التعليم الأولى
يعد
التعليم الأولى حقا من حقوق الإنسان الاساسية، خاصة فى عصر المعرفة الذى نعيش فيه.
ولا بد أن تعطى الحكومات أولوية قصوى لمشروعات محو الأمية.
ولا أستطيع أن
أخفى اندهاشى أمام وضع تعيش فيه المجتمعات العربية فى عصر المعرفة اللانهائية وهى
قابلة لأن يكون من بين سكانها الذين يقارب عددهم 350 مليون نسمة ما لا يقل عن 20
بالمائة ضحايا للجهل والأمية. كيف يمكن لمثل هذه المجتمعات أن تتعايش من النظم
القائمة بصورة واسعة ومتزايدة على خدمات الانترنت وكيف لها أن تكون قادرة على
التعامل مع أسواق عمل تعتمد بالأساس على كفاءات منقولة بالمعرفة؟ كيف يمكن لأسرة لم
يحصل الأب أو الأم فيها على قدر من التعليم أن تعد أبناء لمستقبل أفضل؟
إن
الدول العربية تحتاج وبشدة أن تضاعف الميزانيات المخصصة لنشر التعليم والارتقاء به.
وإذا ما استمر مستوى الإنفاق الحالى على التعليم فى معظم المجتمعات العربية فإنه
سيكون من الصعب جدا تطوير مستوى التعليم ونوعية المناهج أو أداء المدارس أو كفاءة
المدرسين بما يمكن من تخريج كفاءات وكوادر قادرة على التعامل مع المتطلبات
المستقبلية للمجتمعات التى تعيش فيها أو المتطلبات الدولية فيما يتعلق بالتشغيل
وغير ذلك. وينبغى إذن توفير المزيد من المواد للعملية التعليمية وينبغى بالتأكيد أن
يكون لمشاريع تطوير التعليم أولوية وأسبقية على مشاريع أخرى مثل إنشاء تجمعات سكنية
مكلفة للطبقة الميسورة من المجتمع وغير ذلك من المشاريع التى تتعلق بترف الحياة
وليس برفع نوعية الحياة والأداء المجتمعى.
تحسين
وضع المعلمين
وينبغى أيضا تحسين مستوى دخول المعلمين على أساس
الكفاءة وتقييم الاداء. إن فى ذلك الحل للقضاء على العملية التعليمية الموازية
المعروفة بالدروس الخصوصية التى تنفق عليها الأسر المصرية من الطبقة المتوسطة مبالغ
لا تتناسب مع مواردها الاقتصادية فيما يمثل جزءا أساسيا من إجمالى الإنفاق على
التعليم فى مصر ويتنافى مع افتراضية مجانية التعليم.
ويجب أن يكون للقطاع
الخاص دور ما فى الارتقاء بالعملية التعليمية فى إطار من إعادة صياغة العملية
التعليمية ذاتها لتكون قائمة على التكاملية بين الأسر وبين المدارس مع الأخذ فى
الاعتبار أن آليات العملية التعليمية تختلف من حالة إلى أخرى وأنه ليس من السهل
وجود حل نموذجى محدد يمكن لأى من كان ــ حتى لوزراء التعليم أنفسهم ــ أن يقدمه
للمشاكل الكثيرة والملحة التى تواجه العملية التعليمية حاليا. وعليه فإن مشاركة
الأسر فى العملية التعليمية لها دور تربوى وأكاديمى مهم.
التعليم العالى
إن التعليم العالى فى مصر يواجه مشاكل
جمة تكاد تجعله غير ذات جدوى كبيرة بالنظر خصوصا إلى تراكم أعداد الطلاب ومحدودية
الموارد المخصصة للإنفاق على العملية التعليمية. ولقد حان الوقت لإعادة النظر فى
المنظومة الحالية لعملية التعليم العالى التى تدهورت عبر العقود الماضية، وهى
بالتأكيد لم تعد مناسبة للعصر الحالى ولا أمام التحديات الراهنة. إن الوقت قد حان
للاعتراف بأن منظومة التعليم العالى لم يعد من الممكن أن تبقى قاصرة على سياق واحد
فى الجامعات الرسمية وأن هناك مجالا للاستفادة من نظام متطور يجمع التعليم العالى
المتخصص مع التعليم الخاص الأهلى أساسه التكافؤ والتكامل وهدفه إفادة الطلاب كل حسب
اهتماماته وقدراته العلمية وكذلك إمكانياته الاقتصادية.
فى الوقت نفسه يجب
القول إن الجامعات الخاصة لا ينبغى لها أن تتجاوز كونها مؤسسات تعليمية يفترض فيها
أن تقدم القدوة فى الاهتمام بالبحث العلمى ووسائله ولا أن تتحول إلى مؤسسات هدفها
الأساسى هو تحقيق الربح. إن الجامعات الخاصة يجب أن تحتفظ بهيبتها الأكاديمية وأن
تبقى مؤسسات للتنمية غير هادفة للربح.
القدرات
البشرية
وعلى سبيل المثال فإن ولاية كاليفورنيا تقدم الدعم لجامعة
كاليفورنيا ولعدد من الهياكل التعليمية التابعة لها بما فى ذلك كليات مخصصة لتعليم
الكبار غير أن لكل من المؤسسات التعليمية المنضوية تحت مظلة جامعة كاليفورنيا هدفا
تعليميا محددا تقوم به فى إطار عمل المنظومة التعليمية المتكامل بما يضمن تنوع
الفرص التعليمية أمام مختلف الطلاب وبما يهدف فى النهاية احتياجات المجتمع بالنسبة
لسوق العمل وما إلى ذلك، لنجد أنفسنا فى النهاية أمام آلية كفؤة لتقديم الخدمات
التعليمية، بصورة تأخذ فى الاعتبار الفروق الفردية من حيث الاهتمامات العلمية
والوقت المتاح للعملية التعليمية وكذلك الموارد الاقتصادية، ثم الاستفادة من هذه
الخدمات التعليمية وتخريج الكوادر البشرية النافعة للمجتمع.
إن الأسر التى
لديها مكانة اقتصادية جيدة ينبغى لها أن تسهم فى تحمل أعباء العملية التعليمية فى
المرحلة الجامعية بالضبط كما كانوا يفعلون أثناء سنوات التعليم المدرسى، حيث كانوا
يقدمون لأبنائهم تعليما خاصا، أو كما كانوا سيفعلون لو أرسلوا أبناءهم لتلقى
التعليم الجامعى خارج البلاد. أما الطلاب الذين ليس لديهم القدرة الاقتصادية فيجب
أن يؤمن حقهم فى الحصول على تعليم جيد سواء من خلال المنح التعليمية التى يتم
تقديمها بناء على القدرات التعليمية للطلاب أو من خلال الاقتراض المصرفى المقنن من
أجل دفع مصاريف التعليم فى إطار يراعى أهمية التعليم واحتياجات الطلاب وقدرات حديثى
التخرج على سداد هذه القروض.
وإذا عدنا إلى المثال المتعلق بكاليفورنيا سنجد
أنه إلى جانب جامعة كاليفورنيا والمؤسسات التعليمية التابعة لها يوجد أيضا بعض من
أهم الجامعات الخاصة فى العالم مثل جامعة كالتك وجامعة ستانفورد. وتقدم كل من كالتك
وستانفورد مستوى رفيعا للغاية من التعليم كما أن بهما تخرّج رواد كبريات الشركات
الأمريكية مثل جوجل وانتل، وإلى جانب ذلك فإن جامعة كالتك وجامعة ستانفورد هما
يمثلان منارات العلم التى تحافظ على هيبة أكاديمية رفيعة فى إطار عملهما كمؤسسات لا
تهدف لتحقيق الربح المادى، وتعتمدان على مصاريف مرتفعة نسبيا يدفعها الطلاب
المنتسبين لهما وعلى إعانات تقدمها جهات وافراد مختلفة بغرض دعم العملية التعليمية
والبحثية وأوقاف مخصصة للنشاط الأكاديمى لكل من الجامعتين.
البحث العلمى
أما فيما يتعلق بتغطية تكاليف البحث
العلمى فإن ذلك يتم من ميزانيات الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأمريكية
وهيئاتها المختلفة ومن خلال منح يقدمها القطاع الخاص. وتعد المؤسسة الوطنية للبحث
العلمى واحدا من أهم ممولى نشاطات البحث العلمى وهذا نموذج يمكن للدول العربية أن
تستلهم منه ما يسهم فى قيامها بإنشاء آليات ومؤسسات تعنى بالبحث
العلمى.
وأود أيضا أن أقترح على وزارات الدفاع فى العالم العربى أن تقوم
بتخصيص جزء من ميزانياتها لدعم أغراض البحث العلمى والتنمية فى دولها حتى لو أن
المواضيع محل البحث العلمى لا تبدو مرتبطة بصورة مباشرة باهتمامات وأغراض وزارات
الدفاع اليوم لأن آفاق التطور العلمى تتوسع وتتداخل بسرعة كبيرة.
وفى الشرق
الأوسط تمكنت كل من تركيا وإسرائيل فى إنشاء مؤسسات خاصة تعنى بالبحث العلمى. ففى
تركيا أصبحت جامعة بيلكانت واحدة من أهم دور البحث العلمى وهى تحصل على مواردها
المالية من مكاسب تحققها تركيا فى مجالات مختلفة مثل بناء مشاريع كبرى على المستوى
الدولى، ومثال ذلك عمليات الإسهام فى تشييد مطارات وتوسعات للميناء الجوى فى كل من
مصر وقطر وكذلك بيع المنتجات الالكترونية للعديد من المصانع.
وقد كان هذا
النموذج الذى طبقته تركيا حديثا هو اقتراحى لمصر منذ قرابة عشر سنوات ــ ولقد ضمنت
كتابى «عصر العلم» بتفاصيل هذا المقترح الذى قدمته فى حينه للحكومة
المصرية.
فى الوقت نفسه فإن إسرائيل تمكنت من خلال اعتمادها على المؤسسات
الخاصة للبحث العلمى أن تصبح واحدة من أهم الدول المنتجة للتكنولوجيا وذلك من خلال
عمل استغرق عشرين عاما.
الخلاصة هنا أن الأساليب المتبعة فى التعليم العالى
فى مصر فى حاجة ماسة إلى إعادة النظر والتطوير، إن احترام الحقائق والعلم هو أمر
اساسى فى هذا الصدد وهو السبيل الأكيد لتطوير العملية التعليمية كما أنه أحد أهم
الوسائل المضمونة لتغليب قيمة التفكير المنطقى والمتزن فى سياق الثقافة
المجتمعية.
إن الدول التى تكتظ فيها قاعات الدرس الجامعى لا يتحقق للطالب أن
يتمكن من الحصول على تعليم جيد. وعندما كنت طالبا فى جامعة الاسكندرية كنت أحضر مع
ستة طلاب آخرين فصول التجارب المعملية وكان متاحا لكل واحد منا أن يستخدم الأدوات
المعملية وأن يكون له الفرصة الكاملة لإجراء التجارب اللائقة بطلاب العلوم فى ذلك
الوقت. واليوم ومع تزايد كبير فى أعداد الطلاب فيمكن أن يتم الاستعاضة عن ذلك
التعامل المباشر مع أدوات التعلم بأساليب تعتمد أكثر فأكثر على الانترنت والتعلم
والتواصل عن بعد. ولقد رأيت تطبيقات فعلية لهذا النهج التعليمى فى كل من تركيا
وماليزيا وأستطيع القول إن هذه الطريقة هى أفضل بكثير من محاولة تعليم الطلاب
المواد العلمية عن طريق التلقين والحفظ.
ويجب تأهيل الكليات العلمية بالصورة
التى تمكن الدارسين فيها والمعلمين بها من الحصول على أحدث التقنيات العلمية
والتزامهم بإجراء دراسات دورية بما يسمح بأن يتم تقييم الجميع على أسس أكاديمية
بحتة تسمح بحصولهم على الدعم والمكافأة المادية حسب مستوى الإنجاز
والأداء.
الهيئة المهنية
والأكاديمية
على مسار متلازم ينبغى الاهتمام بتطوير التعليم المهنى
وذلك بغرض رفع مستوى الكفاءة على نطاق وطنى أوسع ـ ويتطلب ذلك إيجاد ثقافة لا تقلل
من شأن التعليم المهنى بل وتقدره بما يشجع على الانخراط فيه من قبل الطلاب. إن مثل
هذا النوع من التعليم يرفع من القدرة الإنتاجية للمجتمع عن طريق توسيع دائرة
الحاصلين على المعرفة الفعلية وتطوير البنية التحتية.
إلى جانب ذلك ينبغى
التوقف عن القبول بالحاق أعدادا كبيرة من الطلاب تتجاوز قدرة الاستيعاب للجامعات
العاملة، وكذلك ينبغى إيجاد حل لظاهرة الدرجات التعليمية الكبيرة بصورة لافتة التى
يسعى إليها طلاب المدارس الثانوية بغرض الالتحاق بالجامعات وتلك التى يحصلون عليها
عند التخرج من هذه الجامعات.
وإنى أتذكر أننى حصلت على ما يقارب 90 بالمائة
عند تخرجى وكان ذلك إنجازا ولكن ذلك لا يقاس بما يحصل عليه بعض الطلاب الآن من
درجات نهائية تفوق أحيانا المائة فى المائة. إن أقصى ما يمكن لطالب أن يحصله منطقيا
ينبغى ألا يتجاوز المائة فى المائة حتى لو كان مستحقا لبعض التشجيع أو الدرجات
مقابل نشاطات أكاديمية أو تعليمية مختلفة. إننى أتفهم نظام الحوافز ولكن لا يجب أن
يكون تطبيق هذا النظام على حساب ضمان جودة الأداء أو أن يتحول لوسيلة للتلاعب
بالكفاءات الحقيقية.
إن الارتقاء بالتعليم العالى يتطلب بالضرورة الارتقاء
بالأسس التى يتم عليها السماح للطلاب الالتحاق بالجامعات والكليات المختلفة وفى نفس
الوقت استعادة الجامعات لهيبتها الاكاديمية التى نالها الكثير من التراجع فى الفترة
الأخيرة. إننى أتذكر مشاعر الاعزاز التى خالجتنى فى أول يوم دراسى لى بكلية العلوم
بجامعة الاسكندرية حيث كانت لهذه الجامعة ولتلك الكلية فى ذلك الوقت هيبة
كبيرة.
وأخيرا فإن الحرم الجامعى ينبغى أن يكون دوما ساحة للعلم والثقافة
وليس مجالا للصراعات السياسية والدينية. ويجب ألا يتجاوز دور الأمن فى الجامعة حدود
التأمين ويجب ألا يتداخل مع حق الطلاب الأكيد فى النقاش والحوار والقيام بنشاطات
متعددة ـ وفى حال ما رأت إدارة الجامعة مدعاة لرفع نطاق الأمن فإن ذلك يجب أن يكون
مسئولية حرس الجامعة وليس مسئولية جهاز الشرطة.